مالاتعرفه عن الفنان / أيوب طارش .. ومن وراء خوضه للغناء (صورة)

كتب / وجيه القرشي

 

*محمد طارش عبسي الشاعر الذي جاء ملهماً من خلف منش الثور ليبني وزن القصيدة

*لم يقتنع أنه شاعراً حتى سمع كلماته تُردد من إذاعة تعز وبصوت الفنان أيوب طارش..


ليس شرطاً أن يكون الشاعر ممن تخرجوا من إحدى الجامعات أو الكليات الأدبية... ولم يرتبط الشعر فقط بمن أتى من الفصول الدراسية أو ممن تدرج بالسلم التعليمي وصولاً إلى المرحلة الثانوية .
ولم يكن الشعر مقصوراً أو محسوباً فقط على من يمتلك الشهادة العلمية التي تكون هي الشاهد الوحيد على أحقية هذا الموهوب بالشعر وأحقيته بالتسمية المكنية بالشاعر كون هذه الشهادة هي من عاشرته في صفوفه الدراسية ، وسارت معه حتى النهاية.
وعندما يجمع أي مربد شعري في قاعاته العشرات من الشعراء الأفذاذ الذين يصعدون إلى منصة الإلقاء فرادى يلقون على مسامع الحاضرين ما جادت به القريحة الشعرية لكل منهم ، لم يكن هذا المجمع المكتظ بالشعراء قد أتى بهم جميعاً من خريجي الجامعات أو ما يعادلها - كلا وليس شرطاً- أن يكون الشاعر قد رضع مفردات أبيات قصائده وقوافيها من كُتيبات وملازم الجامعة.
بل أن هناك الكثير من الشعراء الكبار تخرجوا من ( معلامة الفقيه ) الذي كان يُقرئ أو يُدرس تلامذته تحت الأشجار - واسألوا العقاد عن ذلك - ، فالبعض من هؤلاء( المعالمة ) أي التلاميذ درسوا وتعلموا عند هذا الفقيه أوذاك أبجديات القراءة والكتابة واستساغوا الفهم التعليمي باجتهاد ذاتي.
ليبرز من بينهم من يكون يهوى ويعشق الشعر الذي استهواه عقله ووجد نفسه محاصراً أمام شيطان الشعر الذي تلبس به وتركه يهيم في دنيا القوافي والمفردات يتصارع مع عقله وحدسه كيف يبني البيوت الشعرية ؟ 
ومن يأتي بأركان ومداميك السجع المناسب الذي لا يخل بالبيت الشعري ..؟ 
ومن معلامة الفقهاء برز أمامنا واحداً ممن أتوا إلى ساحة الشعر وهم يحملون أفكار القصيدة الغنائية التي لم تخلق من رحم عقله طفلة صغيرة كما تخلق بقية المواليد ولكنها خُلقت وهي تحمل علامة الاكتمال الشبابي بالفهم والتدبير ومحاكاة الآخرين ..
إذاً لا تقولوا ما هي هذه القصيدة الغنائية التي خُلقت وهي مخطوبة مسبقاً لشريك حياتها الذي كان منتظراً ولادتها على أحر من الجمر ؟؟ ومن هوا أبوها وعائلها؟؟ 
ولنقف سوياً مع هذا الإنسان الشاعر الذي أتى من معلامة القرية ، إنه الشاعر/ محمد طارش عبسي الفلاح الذي انتقل من المعلامة إلى خلف المحراث ممتطياً موهبة البتول عندما كان يسابق الطيور بالاستيقاظ ليتجه إلى هناك حيث مربط الثورين فيمسح ظهريهما بأنامله الرحيمة مسحة أم حنون على رأس طفلها الوليد ليحسسهما بالعطف والمحبة كونهما سيظلان طوال النهار صديقين حميمين له... 
ليخرج الفلاح البتول محمد طارش عبسي متمنطقاً ( النبال في كتفه الأيمن ، والمضمد فوق كتفه الأيسر، وهي العُدة الخاص با لحراثة ويعرفها كثيراً أبناء الريف .
ومحمد طارش عبسي هذا الإنسان الذي لم يكن متعلماً كما يجب نظراً لتقوقعه وسط قريته المسمى ب( المحربي ) حيث كان يمثل هناك البتول المعتمد للأسرة بل كان معروفاً هناك ببتول القرية ، ولم يكن له في البداية أي ميول يوحي بأنه يمتلك نزعة شاعرية أو أن كل من حوله يشعر ويتحسس أن هذا البتول تسكن في رأسه موهبة الشعر ..
كيف بدأ الشعر؟؟؟
ومن هنا تمخض عقل الشاعر البتول محمد طارش بأول قصيدة شعرية غنائية كتبها مستوحياً كلماتها من مآثر وطقوس الحنين الاجتماعي الذي يتوارثه أبناء الريف اليمني بعد أن ودعه أخاه الصغر أيوب طارش متجهاً نحو مدينة عدن التي كانت القبلة الرئيسة لهجرة أبناء الريف بحثاً عن لقمة العيش أو التعليم .
ونظراً للتلاحم والتقارب الأسري الذي كان يومها عنواناً لجميع الأسرة وسط القرية ، والتي كانت تمثل عمق الصلة والترابط الأسري وجد الشاعر البتول محمد طارش عبسي نفسه أمام لحظة من اللحظات التي تستدعي وقوفه للتفكر ، والنظر لما آل إليه ذلك الزمن الذي أتى ليسحب من جانبه واحداً ممن أختلط فيهم الدم الأسري وزُرع في قلبه.
شجن المحبة وولع العاطفة ليعيشا الاثنان وكأنهما جسدان في قلب واحد ليأتي ذلك الزمن ليفرق بينهما بعد أن أعلن الأخ الأصغر أيوب طارش هجرته أو سفره نحو مدينة عدن تاركاً أخاه الأكبر محمد يهيم ويبكي الفراق .
وكلما تذكر صوته أو طيفه فاق من غفلته ولسان حاله يقول أنظر من هنا سوف يطل عليك الآن أخاك أيوب ، وهناك تمرد في رأسه شيطان الشعر ، وفي لحظة تفكر مع النفس وهو يقرأ مراحل اللحظات التي أعلن فيها أخاه أيوب السفر إلى عدن.
وكيف كانت لحظة الوداع منذ أن تعانقا ، وحتى بدأت قدماه تدلف من باب البيت نحو الخارج ، وكيف كانت يداه تلوحان نحو الأسرة التي كانت تراقب تحركاته من سقف ذلك الدار المتواضع في قرية المحربي ، ومن ذلك التخيل الذي بقى فيه الشاعر محمد طارش يقرأ مفردات السفر وكيف ودع أخاه الأصغر؟؟
استلهم عقله من ذلك التخيل مفردات القصيدة الغنائية المعنونة ب( رسالة حبيب ) ، ومن ثم مباشرة وجد أن تلك القصيدة تزيل أو ازالت من رأسه شيء من الهموم ، وكأنه بكلماتها يخاطب ويبادل أخاه الحديث وجهاً لوجه بينما بالجانب الآخر ينظر للكلمات وكأنها مناجاة حبيب لمحبوبه .
وهناك تلبس به شيطان الشعر ليقول بعدها مباشرة ، وفي نفس تلك الفترة قصيدته الثانية تحت عنوان ( يوم السفر ) ، وإذا ما رجعنا للقصيدتين ، وتمعنا بكلماتهما فسوف نجد أن السفر ، والفرقة والابتعاد ، كل ذلك كان جاثماً على رأس ،وفكر الشاعر/ محمد طارش عبسي .
وفي حين كان التأثر كبيراً عليه لسفر أخيه أيوب وفراقه عنه ، وبتلك اللوعة كانت الكلمات تنسخ من نفسها مفردات العشق لتقوم بعد ذلك بعمل لصق ،وكأنها كلمات مرسلة من حبيب إلى حبيبه تحاكي شتات ، ومواجع وحرقة البعاد.
ففي القصيدة الأولى وضع الشاعر نفسه مكان الحبيب الذي غاب وترك حبيبه دون أن يسأل عنه أو يعيد له ، ولو خط مكتوب على جوابه وكان يخاطب المسافر الذي كان يمثل يومها الطبل - أي البريد الذي ينقل الرسائل حيث قال:
- بالله عليك وامسافر لا لقيت الحـــــــبيب بلغ سلامي إليه وقل له كم با تـغيب
- أمسيت أناجي القمر والناس جمعة رقود أدعي لربي وقول أيحين حبيبي يعود
- ما طيف أنا يا منائي للجفاء والــــــــبعاد القلب من فرقتك خلى حياتي سُــــــهاد
- إلى متى وا حبيبي با يطول الــــــــغياب أذكر محبك وعود للصفاء والـــــــــوداد
- كتبت لك ألف خط ولا رجع لي جـــــــــواب حتى ولو كان يحمل فيه عليا عــــــــتاب
لهذا عندما ننظر لهذه الكلمات نجد أنها تحمل عمق المعاناة ، وأنها تتحدث ببلاغة المتكلم الذي يحمل غزارة الفكر ، والبعد الأدبي وإن كانت بعضها تأتي ناطقة باللهجة الشعبية ، إلا أن مغزاها وتركيب فكرتها توحي وكأن الشاعر قد رضع المفردات الأدبية منذ ولادته حتى وصل إلى قمة الهرم التعليمي متخصصاً بالجانب الأدبي من خلال وضع السجع وميزان القصيدة .
وقد لا يصدق المتابع لتلك القصيدة أن قائلها أتى - بتولاً- من خلف ( منش ) الثور - إي ذنب الثور وكان طبشوره وقلمه هو ذلك ( الموهر ) الذي يسوق به الضمد وسبورته ذلك المضمد المسطح الذي يضعه فوق رقبتي الثورين ، وملزمته التي يذاكر منها هي تلك (التليم) التي يرسمها النبال داخل الحول ، وكأنها خطوط مسطرة وسط ورقة بياض مكتوباً عليها لغة الأدب.. 
وعندما وجد الشاعر/ محمد طارش تلك الكلمات أمامه ،وهوا يعيد قراءتها على نفسه ، ويدخل مرة أخرى مع تخيلات ، ومواجع السفر كانت تمثل له يومها يوم حزين أشبه بمن يودع أعز إنسان عليه إلى دنيا الآخرة .
إلا أن ذلك التخيل وكما أسلفنا من قبل يحاول أن يربطه بسفر وبُعد الحبيب عن حبيبه ليجعل الكلمات تتحول من معانات العطف لقريب بقريبه ، إلى عاطفة العشق من حبيب لحبيبه ، وهناك بدأ يدخل لصياغة كلمات القصيدة الغنائية الأخرى التي كتبها تحت عنوان ( يوم السفر ).
وكأن شاعرنا القروي البتول محمد طارش قد وجد بالسفر نكهة شعرية تجعله في لحظة انهماك ، وتواجد حقيقي وسط دائرة الحدث الذي يحاكي السفر ، ويأخذ منه لواعج ومواجع الترحال ، وكأنه عندما يكتب أو يتحدث عنه كأنه يقف أمام شخص يسرد له قصة واقعية تعنيه ،وفي غاية الأهمية وهذا ما توحي به قصائده التي أتت بمسمى السفر في أكثر من بيت وكما تقول بعض أبيات القصيدة الغنائية يوم السفر..
- يوم السفر أصبحت أودع أهـــــــــلي وكل واحد منهم قريـــــــــب لي
- بكى الحبيب من ساعته وقـــال لي أين تروح يا وحشتي يا خــــــلي
- يوم الهناء والود والعــــــــــــــــناقِ دموع تجري ع الخدود ســـواقي
- إن غبت كم باأصبر على اشتياقي وكيف يكون حالي بعد الفراقِ
حتى أنه عندما كتب هذه الأبيات يخيل لنا وكأنه كتبها في نفس لحظة فراق الحبيب كون وقعها أي الكلمة تظهر وكأنها تناشد وتحاكي ذلك المحبوب الذي يقف أمامها في لحظات الوداع الأخير أو تودع أولائك الأحبة الذين يقفون على سقف الدار، وهم يلوحون بأيديهم معلنين الوداع ، وكما هو حال البيتين الأخيرين حيث قال فيهما...
- ورحت وأحبابي يتفرجوا لي أسير وأتلفت مو يقولوا لي
- وهم بسقف الدار يلوحوا لـي سلام باليدين يأشــــروا لي
إذن هكذا بدأ الشاعر / محمد طارش عبسي يصوغ كلماته الشعرية قبل أن يعلم أنها سوف تتحول إلى كلمات غنائية لها لحنها ولها ترديد موسيقي تحاكيها أوتار العود بل تجعل العود نفسه هو من ينطق بها ويردد حروفها بنغمات لحنية منتظمة لا تبحث عمن يترجمها إلى نطق .
وبرغم أنه في البداية لم يعط قصائده أهمية كونه لم يكن يعلم أنها سوف توصل إلى مسامع الآخرين بذلك الصدى رغم انه كتبها من معاناة ، لكنه بتواضعه كان يرى نفسه من خلال مخرجات أفكاره أنه إنسان بسيط بهذا الجانب ، ولا يمكن له الدخول بين رواد القصيدة الشعرية .
إلا انه لم يتردد للوراء ، ولم يتوقف عن كتابة ما تجيش به قريحته ليكرر كتابة قصيدته الثالثة تحت عنوان ( قد كان طبعك حلى ) وهي القصيدة التي جعلها تعاتب ، وتصارح المحبوب الذي غير من سيرة حياته العاطفية بعد أن كان حسن الطباع والمعاملة ليتنكر بعد ذلك لمحبوبه ، ويعلن الجفاء ضده وإهانة العاطفة حيث قال في بعض أبيات القصيدة..
- قد كان طبعك حلى وليش غيرته بعد المودة خصام يا خل رجـعته
- أحرمتني من هواك وقلبي عذبته وآنا توقع لقاك أليوم أوبــــــــعده
- لأن حبك سكن قلبي وصـــــونته وأنت جازيت حبي بالفراق هنته
- بذلت روحي معك ياخل وأنكرته بعد ألهنا والمودة رحت فـــارقته
ليتنقل بعد ذلك الحوار الذي أجراه شعرياً مع المحبوب ووجد فيه عدم التجاوب ، وعدم الالتفات أو السماع لما يقوله حبيبه كونه قد غرس في قلبه القسوة العاطفية مما جعل الشاعر محمد طارش عبسي يتحول بالنداء والشكوة للآخرين وبلسان ذلك الحبيب حيث قال..
- يا ناس خلي ظلمني كيف أســـوي به كأن قلبي معه عصفور يلعب به
- ما باقدر أنسى هواه مهما خلف عهده لأن قلبي تولع با يروح بــــــعده
وبدأ الشاعر أخيراً يحس بشيء من الثقة بالنفس ، وأن ما يكتبه يدخل فعلاً ضمن الفصائل الشعرية بعد أن جلس مع نفسه أيام وليالٍ يقرأ ،ويراجع ما كتبه ويتفكر بالصورة الشعرية ، وكيف استطاع أن يدخل فيها تلك الحبكة ، والتخيل الشعري وحينها أضاف قصيدته الغنائية التي كانت بعنوان..( بس لا تأشر لي سلام بيدك )..
وتقول بعض أبياتها ..
- بس لا تأشر لي ســــــــــلام بيدك قلبي تعب من فرقــــتك وصدك
- مرة شهور من حين خلفت طبعك ولا دريت ماهو السبب وعذرك
- ما كنت داري يا حبيب مــــــا بك وايش الذي تفكره بعـــــــــــقلك
- وقلت لك قلي بما في قـــــــــــلبك ولا تخليني مشـــــــغول بأمرك

ومن حسن الصدف أن الشاعر محمد طارش عبسي عندما بدأ يكتب الشعر كان بالجانب الآخر أخوه الأصغر أيوب طارش عبسي قد بدأ يتعلم العزف على العود ، ويجيد الغناء حينها حاول الشاعر أن يجرب موهبته وهل تجد قصائده طريقها للغناء فأرسلها لأخيه إلى عدن .
والذي بدوره أُعجب بها فحاول أن يعطي القصيدة الأولى شيء من ألحان التراث بعد أن طوره بطريقته الخاصة بينما قصيدتي ( يوم السفر - و- وقد كان طبعك حلى ) بدأ بهما الفنان أيوب طارش يختبر موهبته باللحن فوضع لهما لحنين جديدين.
أما الأغنية الرابعة التي بعنوان:( بس لا تأشر لي ) ، فقد أقتبس لها لحن من التراث الشعبي اليمني ، وهناك بدأ الفنان أيوب طارش يغني بها فوق سطح البيت التي يسكنها بمفرده خوفاً من المعارضة.
لينطلق أولاً بشريط كاسيت كان يحمل الأغاني التي من كلمات أخوه محمد طارش عبسي ، وأغنيتان للفنان / محمد احمد بشر ( قلبي الجريح ، وأغنية صدفة من الصبح ) وهي من كلمات عبده علي الذبحاني . 
وبعد التسجيل للشريط الأول الذي أرسله مع الطبل الذي ينقل الحوالات والرسائل من عدن إلى أرياف تعز وكان أسمه ( عبده الغني العمشة )،وهذا بدوره سلمه إلى إذاعة تعز التي بدأت تبث تلك الأغاني خاصة بالبرنامج الخاص ما يطلبه المستمعين.
وهناك بدأ الشاعر محمد طارش عبسي يسمع قصائده التي كتبها بصوت أخوه الفنان أيوب طارش ليشعر أن القرية والريف والحول والساقية والضمد وعدتها والتليم كل هذه المسميات الريفية لم تكن وبالاً عليه ، ولكنها استطاعت أن تخرجه من خلف ( منش الثور ) إلى أمام المجتمع ، وشعر أن الإنسان حيث يضع نفسه.
وما كل المسميات والأعمال الريفية التي كان يزاولها ما هي إلا أداة تنشيط للذاكرة التي تقود صاحبها إلى همة التوكل على النفس والرضا، بما قسمه الله سبحانه وتعالى .
كما أن الأجواء الشاعرية والطقس الريفي الذي تتمتع بهما القرية كل ذلك يزرع في عقل المعايش لها هواجس الكلمة ، وبناء القصيدة الشعرية ، وموال اللحن ، وهذا ماوجده فعلاً شاعرنا البتول محمد طارش عبسي - رحمة الله تغشاه في قريته بالأعبوس الشاعر الذي وافه الأجل يوم 27/7/2006م ....

الوكيل الحصري في اليمن: شركة مسلم التجارية